هكذا عرف الدكتور زكي الصبيحاوي الإمام أحمد الحسن (ع)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآل محمد الأئمة والمهديين وسلم تسليما

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هكذا عرفته ….

بدءاً عليَّ أن أقول هكذا رأيته ، أما القول بأنني هكذا عرفته فهذا فيه مجازفة كبيرة وظلم للحقيقة والتاريخ ، فهذه شهادة سألاقي بها ربي غداً ، وسأسأل عن كل كلمة فيها ، وكذلك أجعل بين يدي شهادتي هذه الاعتراف مقدماً أنني لا أستطيع الادعاء أنني بكل كلمة سأكتبها كنت منصفاً في شهادتي لولي من أولياء الله سبحانه وصفيٍّ من أصفيائه(ص) ، ولكن حسبي أن شهادتي لهذه المعرفة بقدري لا بقدره ، ولعل الله سبحانه أن يجعل هذه الشهادة المشوبة بالتقصير فضلا على القصور باب هداية للقارئ الباحث عن الحق والحقيقة . لقد كان لقائي الأول بهذه الدعوة المباركة وليس بداعيها (صلوات الله وسلامه على داعيها وآبائه وأبنائه) في ذكرى أربعينية الإمام الحسين(ص) أي في 20/صفر/1426هـ ق الموافق يوم الخميس 31/3/2005م ، حيث رافقنا في تلك الزيارة شقيقان لم يكن أياً منهما من المنتسبين للجامعة ، وهذه الزيارة كانت مخصصة لمنتسبي الجامعة ، ولكن سبحان الله هكذا الأمر حصل.

ووافق أن ركب هذان الرجلان معنا في الحافلة التي أقلتنا إلى كربلاء المقدسة ، مع أن هناك سيارات أخر غيرها كانت ، ولعل لمعرفة أحد الأخوين بصديقي الأستاذ سببا في أن يركبا معنا ، المهم كان الحال في البداية اعتياديا عرفني صديقي عليهما وتبادلنا التحية ، وبدأت الرحلة وكانت الحوارات فيها طوال الطريق هي بخصوص صاحب الذكرى (صلوات الله وسلامه عليه) ، وكان أحد الأخوين قد جلس بيني وبين صديقي ، وكان حوارهما مستمر من بداية الرحلة إلى أن قطعنا منها شوطاً كبيراً ، وأتذكر كان هذا الأخ مصطحبا معه كتاب (مفاتيح الجنان) وكان يقرأ فيه دعاء الجوشن الصغير ويسألنا عن معاني بعض الألفاظ فيه ، ويتوقف عند بعض الفقرات ويحاول إثارة النقاش فيها ، ويبدو أن هذا الأخ كان قد قطع شوطاً كبيراً في الحديث مع صديقي عن دعوة يماني آل محمد(ص).

وبحسب ما ذكر لي صديقي أن صاحبه قال له ؛ كيف ترى تقبل صديقك لهذا الأمر؟؟ هل أبادر بطرحه عليه؟؟ فيقول صديقي : أجبته وأنا أشعر بالخوف من ردة فعلك ، فقلت له ؛ حاول إن شاء الله خير ، وكان أن التفت إليّ هذا الأخ وبدأ بالتطرق إلى حال العلماء وكيف أنهم قد أخلوا بوظيفتهم وتكليفهم اتجاه الناس وتقصيرهم في هدايتهم ، وقلة ورعهم والتفاتهم للدنيا ، ولم يكن حديث الأخ بغريب عما كان يدور برأسي فأنا ـ وأعوذ بالله من الأنا ـ لم أعرف التقليد في حياتي ، وحتى عندما كنت أذكر أنني أقلد فلانا من العلماء ما كان القول إلا على سبيل مماشاة القوم ، لأن الثابت لدى عموم الشيعة أن الذي لا يقلد عباداته لا أقل إن لم تكن مقبولة فهي مشكوك بأمرها ، ولكي يخلص المرء من كثرة الكلام غير النافع يقول أنا أقلد فلان وانتهى ، ولكن في مواقف عندما يفتح حوار بشأن دور المرجعية ورجال الدين في المجتمع كنت أنتقد دورها بما أعرف ، فحال المرجعية وخصوصا بعد سقوط النظام صار لا يخفى حتى على المغفلين ، فما بالك بمن كان يراقب فعلها بصورة أو بأخرى في زمن الطاغية وخاصة منذ أن وعينا دورها المخزي إبان الحرب العراقية الإيرانية ، وتركها الناس لمقصلة الطاغوت تحصد بهم بدعوى التقية ، وما إلى غير ذلك من الفبركات الحوزوية التي لا علاقة للدين فيها لا من قريب ولا من بعيد.

فكان الأخ يتحدث ويذكر مواقف لأولئك العلماء مؤلمة بوصفه مطلعا على الكثير منها ومنها ما نقله الثقاة له من أصدقائه عن ممارسات مخزية يترفع عنها من يعدهم المجتمع (من أبناء الشوارع) ـ مع الاعتذار للقارئ عن هذا التعبير ـ ولكنه أخف تعبير ممكن أن يقال لوصف مخازي علماء الدين وعدد ممن يسمون أنفسهم مراجع ، وبعد أن اطمأن هذا الأخ إلى أنني معه على الخط تماما ولم يلمس مني معارضة بشأن ما طرحه من مصائب المعممين ، دخل بموضوع دعوة اليماني(ص) فقال : ظهر رجل يقول أنا وصي ورسول الإمام المهدي(ص) واسمه أحمد وأخلاقه وصفاته و… و… ، وكان الأخ يتحدث عن هذه الشخصية بمشاعرية غريبة عجيبة ، كان يتحدث عنها بلسان المحب الذي لا أبالغ إن وصفته بأنه ذائب بحبها ، وكنت أسمع من دون تعليق ولم يكن الموضوع بالنسبة لي وأنا أسمعه سوى حديث نمضي به الطريق وآخذ منه ما كنت أراه ينفعني.

لقد كنت عزمت مع نفسي على الابتعاد عن أي انتماء ، وهذا العزم ترشح لي من رؤيتي لواقع الناس وكيف أن الكثير ممن كنا نعدهم أصحاب ثقافة ووعي انجرفوا في هذا التيار الجارف تيار الانتماء للأحزاب والمنظمات التي أغرقت دكاكينها البلد بل المضحك المبكي أن للكثير منهم أكثر من انتماء ، وكانوا يتربصون أي الأطراف أو الأحزاب يكون نافعا ماديا يهرولون إليه ، ولذلك الكثير من الناس ومنهم ممن هو مقرب إلي طرح عليّ فكرة الانتماء إلى تلك الدكاكين ومشروعها وكنت أرفض ، بل وأشعر بالامتعاض من طريقة الدعاية الرخيصة لها، وبفضل هذا الشعور عصمني الله سبحانه من المشاركة بهذه الديمقراطية المستوردة تماما من دون أن يكون لي هذا الوعي الموجود الان بخطورة ذلك المشروع .

لذا سمعت الأخ وحلت ما طرحه عليّ إلى هذا الشائع لدى الناس من الانتماء ، فوعدته خيراً ولكن ما طرحه لم يأخذ عندي حيزاً للتفكير خاصة وهو قد ذكر لي أن هناك كتابات على الحيطان تخص هذه الدعوة ، والإعلان عنها فزاد هذا الأمر من عدم اهتمامي لأن ما كان يحدث على الحيطان بعد سقوط النظام خلط الحابل بالنابل وجعل الأخضر يؤخذ بسعر اليابس ، المهم زرنا ولقد رافق تلك الزيارة العجيبة مشقات كثيرة لأول مرة أكابدها لأنني كنت قليل الزيارة للمراقد والعتبات المقدسة ، بل لعل هذه الزيارة الأولى لي بهذه المناسبة على طول حياتي الماضية ، المهم في طريق العودة عاد معنا الأخوان واستمر هذا الأخ ولكن هذه المرة بصورة موسعة لأنه اطمأن إلى أنني كنت أسمعه ولم يبد عليّ أي اعتراض فضلا على توافق الرؤى بيننا بشأن المعممين ، ولقد أخذ التعب في تلك الرحلة مني مأخذه فكنت أسمع أشياء وأخرى لا أسمعها ، ولكن ما لفت انتباهي هو أن هذا الأخ عندما دخلنا إلى المدينة بعد عبورنا للسيطرة نادى : استقبلوا مدينة القائم بالصلاة على محمد وآل محمد!! (اللهم صل على محمد وآل محمد الأئمة والمهديين وسلم تسليما) فارتفعت الصلوات من الموجودين في الحافلة من دون أن ينتبه ـ كما أظن ـ أحد إلى ما قاله الأخ ؛ (مدينة القائم) ولكن وصفه أثار استغرابي من دون أن أعلق .

وطلب منا هذا الأخ أن نهتم بالأمر ونحمله على محمل الجد في التفكير والبحث ، وقلنا له خير إن شاء الله ، وافترقنا وبعد يومين أو ثلاثة التقينا في بيت أحد الأصدقاء كان أخوه قد تزوج قريبا وأتيت لأداء الواجب معه ، ووافق أن التقيت بهذا الأخ مرة أخرى وهذه المرة تحدث بشكل أوسع عن الموضوع وعن أدلة هذه الدعوة بعمومية وكان يحمل بيده عدداً من الكراريس تخص هذه الدعوة ، وتحدث عنها وعن صاحبها بصورة عاطفية وكان منفعلا وهو يتحدث عنها ويدعونا إليها فاستمعنا منه ، وسألنا عن رأينا؟؟ وأخبرنا أن لهذه الدعوة حسينية جديدة في طور البناء وتقع في حي الزهراء ، والعاملين فيها هم من المؤمنين بهذه الدعوة وستقام فيها صلاة جمعة ، ووافق قوله هذا يوم أربعاء فتواعدنا معه على المجيء لهذه الحسينية والاطلاع على ما ذكره والتحقق منه ، وبعد أن غادرنا ، تداولنا الأمر أنا وصديقي الأستاذ وسألني رأيي فيما سمعت ، فقلت له : نذهب الجمعة إن شاء الله ونرى ، فإذا رأيت الموجودين من أهل الله فإن شاء الله خير ، وإن كان الأمر غير ذلك فلكل حادث حديث ـ كما يقال ـ أما هو فجعل الرؤيا دليله للمعرفة وقال : إذا رأيت رؤيا كما قال الأخ فلابد أن يكون هذا الأمر مهم ويستحق البحث والاهتمام ، المهم افترقنا ، ولم يبق من الموضوع غير مسألة الموعد وزيارة هذه الحسينية ، فجاءت الجمعة المباركة وذهبنا إلى موعدنا وكان هو اللقاء الأول بهذا الأمر العظيم حقا وصدقا .

لم تكن الحسينية التي أخبر عنها الأخ غير سياج لم يرتفع بضعة سنتيمترات عن الأرض وغرفة نائية وكوم من الطابوق ومواد البناء الأخرى البسيطة ، ومكان مصلى مفروش بالرمل ، وكان الوقت يقترب من القيظ ، فعلى ما أتذكر لعل في هذه الجمعة أو في الجمعة الثانية كان إمام الجمعة رجلا يرتدي كوفية وعقال كان طويلا وأسمر ، وعندما دخلنا إلى الحسينية لفت نظري أنه كان يصلي بمفرده ، وباقي الناس في الحسينية كل منشغل بأمر من الأمور ، وذهبنا ودخلنا في تلك الغرفة التي كان فيها أحد المشايخ يتحدث عن الدعوة ، وكان اسمه (شيخ حبيب) كان شخصا بسيطا ويتحدث بفطرية وتلقائية عجيبة ، كأنه ليس من زمننا.

عند الرؤية الأولى لأتباع هذه الدعوة تحقق في نفسي ما جعلني أتعلق بها، وهو عندما قلت لصديقي الأستاذ : أنا بحسب ما أعرف أن هذا الأمر لابد أن يكون أناسه من البسطاء ، لأنني أتذكر هرقل الروم عندما كان يسأل ابا سفيان(لع) عن أتباع محمد(ص) هل هم من علية القوم أو هم من البسطاء؟؟ فكان جواب أبو سفيان : بل من البسطاء والفقراء ممن لا يلتفت إليه ، فأجابه هرقل : وكذلك أتباع الأنبياء ، فهذه الجملة كانت دليلي في معرفة الحق ، فالدعوة الحق لا يتبعها إلا البسطاء في بدايتها ، وهذه الدعوة في بدايتها ، وكان الحال كما أخبر هرقل عن حال أتباع الأنبياء(ع) ، وخاصة هذا الشيخ المتصدي للحديث ، فتعلق قلبي بالمكان وبأهله ، ومن ذلك اليوم ما عدت أستطيع مفارقته.

المهم صلينا الجمعة خلف هذا الرجل الأسمر الطويل وكان يمسك بيده مصحفاً ، وكان كثير الإطراق إلى الأرض وهو يتحدث ، وعندما يصل الحديث إلى سيرة أولئك المعممين كان يتحدث بشدة وبانفعال واضح ، وخاصة عندما يذكر انحرافاتهم العقائدية والأخلاقية ، لم أجد في نفسي دافعا للسؤال عن إمام جمعتنا فهو لابد أن يكون من الأتباع فضلا على أنه في خطبتيه كان بسيطاً كذلك وتلقائيا ، لم يكن يتكلف ، ولم أدقق فيه لأن الموقف بجملته وتفاصيله كان جديداً عليّ حتى أنني كنت شبه المذهول ، بل لا أبالغ إذا قلت : كأنني اليوم أعرف هذا العالم العجيب الذي اسمه (الدين)!!!

خلاص عندما تحقق دليلي في معرفة الحق ارتبطت مع المكان وأصحابه فلم أعد أفارقهم منذ أن وطئت قدمي هذا المكان الطاهر ، فلا يمضي يوم إلا وأنا ـ وأعوذ بالله من الأنا ـ حاضر وموجود وأستمع للأخوة الأنصار ، وأتعلم منهم ، ولأول مرة ألتقي مع روايات الطاهرين(ص) بهذه الصورة ، كان كل الذي نعرفه من رواياتهم (ص) هو بعض ما يرشد إلى مكارم الأخلاق ، أما ما يصف الواقع وانحراف الناس عن الحق ، واتباعهم لفقهاء الضلالة ، علامات أولئك الفقهاء فهذا مما لم أكن أعرفه أنا شخصيا ، بل كنت على الرغم من عدم محبتي لأولئك المعممين واستثقالي لهم إلا إنني لا أعرف بما وصفهم آل محمد(ص) ، لأن الدين بالنسبة لي قبل دخولي هذا المكان الطاهر هو ليس من اختصاصي بل هو من اختصاص المعممين ، ولعل هذا ما شكل لي صدمة وجعلني مذهولا هو أن الدين مسؤولية الجميع ولا عذر ولا عاذر لأي إنسان بعدم الاطلاع والمعرفة ، ولذا مقولة (ضعها براس عالم واطلع منها سالم) ما هي إلا خدعة كبيرة ضاع الدين جله إن لم يكن كله بإشاعة هذه المقولة بين الناس ، بل ولكي يجعلوها ثابتة أكثر راحوا يحوكون حولها جملة من المغالطات من مثل ؛ (على الجاهل أن يلجأ إلى العالم) و(الدين هو جانب اختصاصي كالطب والهندسة وغيرها من العلوم) ، و(لابد للعامي أن يقلد في دينه) ، و… و… الخ من العبارات المسلفنة التي صودر بها الدين ومعرفته.

ولذلك كانت هذه الدعوة صادمة للواقع بل ثائرة فيه كالبركان ومثورة له ، فكل الناس الذين تطرح عليهم الدعوة كان رد فعلهم الأولي هو الصدمة والذهول ، وقد يستبد الذهول بهم إلى درجة أن السامع يبادر إلى الإنكار مباشرة قبل الاستبانة والتروي ، ولاشك في أن رد الفعل هذا يكشف عن أن هذا الذي استنكر وكذب انكشف له واقع تأريخ مظلم كان يتصوره هو النور ، وبعد هذه المسيرة الطويلة يكتشف أنه كان يخدع نفسه ولم يكن هناك نور بل كان ظلاما في ظلام!!!

ولذا كان صاحب الدعوة مقدراً لحال الناس وعاملهم بالهوينى وأمر أتباعه أن يترفقوا بالناس ، وأن يعاملوهم معاملة الطبيب للمريض ، ومعاملة الحكيم للمجنون ، لأن الفساد الذي أوقعه فقهاء السوء على طول مسيرتهم التاريخية في الدين كان كبيراً جداً وخطيراً جداً!!! فلولا ظهوره (ص) في هذا الوقت لمحق الدين تماما ، فكان ظهوره في هذا الوقت بالضبط هو تعبير عن امتداد يد العناية الإلهية للبشر قبل أن ينجح الشيطان في احتناكها كلها ، قال تعالى{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً}(الإسراء/62) ، ومازال إلى اليوم يأمر (ص) أتباعه بالترفق بالناس بل ويشدد على الترفق كلما اقترب الزمن وفار التنور ، لأنه بات اليوم الذي ترفع فيه التوبة عن الناس قريباً جداً .

لقد وضعتني هذه الدعوة وجها لوجه مع (أنا) ولأول مرة أعيش هذه المواجهة المرة بكل تفاصيلها ، ولأول مرة اكتشف بأنني كنت بعيداً عن فضاء الإنسانية بل لا حظ لي فيه إلا الشيء القليل القليل جداً وربما هذا القليل هو الذي جعل الله سبحانه يتفضل علي بمنه العظيم هذا ، ولذا يصح أن يكون عنوان هذا الموضوع (هكذا عرفتني) وليس عرفته لأن أحمد الحسن(ص) مرآة إلهية عظيمة استبان فيها غربة الإنسانية فينا ، واستبان فيها ضيعة الدين وغربته ، وهو حقا وصدقا مائدة الله سبحانه الذي اكتشفنا عندها سقمنا وفقداننا للعافية ، ومنها وفيها رحت أتذوق طعم العافية وأتعرف عليه لينكشف حقيقة المرض الذي كنت أعيشه وكنت أتوهم أنه العافية!

لقد كان أحمد الحسن(ص) رسالة الله سبحانه لعباده كي يوقظهم من رقدة الغفلة بالوقت الذي كانت فيه سكين الدنيا تنوش رقابنا وتؤثر فيها ، ولذلك لا أستغرب وأنا ألحظ الناس وعنفهم في مواجهة هذا الأمر لأنه ببساطة فضح واقع الانحراف الخطير عن سبيل الله سبحانه ، وكشف الوهم الكبير والظلمة العظيمة التي كان يتصورها الناس نورا ، ومن ثم فردة الفعل هذه محكومة بقانونها (لكل فعل ردة فعل تناسبه في المقدار وتعاكسه في الاتجاه) ولعل هذا القانون يحكم الجانب المادي في الإنسان ولكن الجانب الروحي هو صاحب القرار والاختيار ما بين الجنة والنار؟؟؟

سبحان الله فدروس هذه الدعوة العظيمة تبدأ مع من يتبعها منذ اليوم الأول الذي يفيق منه من صدمة الفعل ورد الفعل ليجد نفسه خاوية تماما كأنه مريض قد استؤصل منه ورم سرطاني خبيث وكبير اسمه الدنيا فالجسم يشعر بالهوان والضعف ، ولذا فهو يمر بفترة نقاهة حقيقية وعلى المرء أن ينتبه لهذه الفترة ويتعامل معها تعاملا يضمن له النجاة ، لأن فرصة عودة هذا الورم الخبيث مازالت قائمة مادام الجسم يشعر بالوهن ، وواقعا أن هذا الوهن شعور نفسي ، ولا يزول إلا بأخذ الجرعات تلو الجرعات من روايات الطاهرين(ص) ، فهذه الدعوة العظيمة هي مبضع الجراح الماهر الذي يقوم باستئصال هذا الورم الذي كان يوهم صاحبه أنه جبل لا سبيل إليه ليجده بعد استئصاله سهلا يطلب النبات والاستنبات.

وهنا تبدأ المرحلة المهمة ، وهي مرحلة استشعار التواضع والعمل على أساسه كما علمنا هو (ص) عندما ذكرنا بقول عيسى(ع) [تواضعوا فبالسهل ينبت الزرع لا بالجبل] نعم منه (ص) تعلمت هذا الأمر العظيم بل لازلت أتعلمه منه وبه أعالج هذا الورم الخبيث ، بل ومنه (ص) تعرفت إلى عيسى(ع) وموسى(ع) وكل أنبياء الله ورسله(ع) ، ومنه بدأت أعرف شيئا من محمد(ص) وعلي(ص) وفاطمة(ص) والطاهرين(ص) أجمعين .

لقد قال بعضهم : كاد المعلم أن يكون رسولا ، وهذا القول تنقصه الدقة فلو أنصفوا لقالوا : إنّ المعلم أن يكون رسولا ، فلا يكون المعلم معلما حتى يكون رسولا ، قال تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(الجمعة/2-3) ، نعم كان الرسول معلما والمعلم رسولا ونعمت ، وأول درس علمه المعلم لطلبته هو : عليكم بقتال الأنا وقتلها ، فلا تصلون إلى الله سبحانه إلا بقتلها ، أو كما قال هو (ص) في إجابة على سؤال سيدة نصرانية عن مضامين دعوته وأهدافها ؟ فأجابها قائلا : [قال عيسى (ع) ( ليس بالطعام وحده يحيى ابن آدم ولكن بكلمة الله ) ، وأنا عبد الله أقول لكم بالطعام يموت ابن آدم وبكلمة الله يحيى .

فدعوتي كدعوة نوح (ع ) وكدعوة إبراهيم (ع) وكدعوة موسى (ع) وكدعوة عيسى (ع) وكدعوة محمد (ص) .

أن ينتشر التوحيد على كل بقعة في هذه الأرض ، هدف الأنبياء والأوصياء هو هدفي ، وأبين التوراة والإنجيل والقرآن ، وما اختلفتم فيه ، وأبين انحراف علماء اليهود والنصارى والمسلمين وخروجهم عن الشريعة الإلهية ، ومخالفتهم لوصايا الأنبياء (ع) .

إرادتي هي إرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته . أن لا يريد أهل الأرض إلا ما يريده الله سبحانه وتعالى ، أن تمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، أن يشبع الجياع ولا يبقى الفقراء في العراء ، أن يفرح الأيتام بعد حزنهم الطويل، وتجد الأرامل ما يسد حاجتها المادية بعز وكرامة …… أن …… وأن …… أن يطبق أهم ما في الشريعة العدل والرحمة والصدق .](من كتاب وصي ورسول الإمام المهدي(ع) في التوراة والإنجيل والقرآن)

من ضمن اللقاءات التي منَّ بها الله سبحانه عليَّ كان لقاء في حسينية أنصار الإمام المهدي(ص) في البصرة حيث دعوت أحد الأشخاص ممن كنت أعده صديقا لي إلى هذه الدعوة المباركة وتوافق وجودنا في الحسينية مع وجود السيد أحمد الحسن(ع) ، وجلس هذا الشخص قبال الإمام أحمد الحسن(ع) وراح يسأله عدداً من الأسئلة ، والإمام(ع) يجيب بأريحية لا تليق إلا به سلام الله عليه لأن أسئلة ذلك الشخص لم تكن لطلب الحق بقدر ما كانت لاختبار داعي الله(ع) ، وأتذكر من ضمن تلك الأسئلة أنه سأله عن بعض الأسماء من علماء الغرب فسأل الإمام(ع) عن العالم النفسي فرويد ، فعبر الإمام(ع) عن امتعاضه من هذا الرجل ، ثم سأله عن إنشتاين ، فأجابه (ع) أن هذا الرجل يعترف بوحدة الوجود في نظريته ، ثم سأله عن التطور والحاسوب والإنترنت وهذه الثورة التكنلوجية الهائلة وموقف الإمام المهدي(ص) منها؟؟؟ فقال له الإمام(ع) : أسألك فأجبني بصراحة : هل استطاع كل هذا التطور الذي تراه من إنقاذ امرأة وقعت في مستنقع الرذيلة ، وسار بها في طريق الفضيلة؟؟؟ فكان جواب هذا الشخص : لا ، فقال له الإمام(ع) : إذن لا قيمة لكل هذا الذي تسميه تطوراً.

ومما أتذكره من أسئلة هذا الشخص قوله للإمام(ع) : هناك رين على قلبي يحجبني عن معرفة الحقيقة فما السبيل لإزالته؟؟ فأجابه الإمام(ع) : هل لك أتباع؟! قال : لا ، قال له : هل لديك منصبٌ كبيرٌ أو … أو… ؟؟ أجاب : لا ، فقال له الإمام(ع) : فأنت تحمل همَّ نفسك فقط ، قال : نعم ، قال له هل الرين الذي على قلبك أكبر أو الرين على قلب من له أتباع؟؟ فهناك من كان له أتباعاً ولكنه لما عرف الحق ترك كل ذلك خلف ظهره والتحق بالحق .

لقد كان اللقاء طويلا ربما استمر اكثر من ساعة ونصف مع هذا الشخص ولكنني ـ وأتحدث عن نفسي ـ كنت مذهولا ولم أمتلك نفسي فالكثير من الأسئلة لم أتذكرها لأنني كنت أبكي وأنا أسمع إجابات الإمام(ع) والكثير من الأخوة الجالسين كانت دموعهم تسيل ، أما ذاك السائل ما رق له قلب (سبحان الله) سلام الله على نبي الله عيسى حيث قال : (الذي من الله يسمع كلام الله) ، لقد أحسست في تلك الليلة بحب للإمام(ع) ما كنت أشعره لأحد سابقا حتى أنني لما رأيته تأهب للخروج أسرعت إليه وعانقته وأنا أبكي وقلت له : مولاي (ادعيلي) هكذا بالعامية الدارجة، فضمني صلوات الله عليه وقال : الله يوفقك .

نعم لا يملك المرء وهو يلتقي الإمام(ع) إلا أن ينخلع قلبه ـ وأعتذر لأنني أتكلم بهذه اللغة التي ربما يصفها البعض بالعاطفية ولكن هذا ما أحسسته في ذاك الموقف ـ كان مهيبا (ص) على الرغم من البساطة التي كانت بادية عليه في الحركة والكلام وحتى في الملبس ، والله ـ حقا وصدقا ـ من يلتقيه (ص) يقول مع نفسه : يا حسرتاه على الإنسانية ، فمن يرى السيد سلام الله عليه يعرف معنى الإنسانية ، وكيف يكون الإنسان إنسانا، لقد كانت اللقاءات به قليلة سلام الله عليه وخاصة في الحسينية حيث بدأ فقهاء السوء وزبانيتهم يضيقون الخناق على السيد(ع) ، وحرمونا لقاءه سلام الله عليه ، ولكن على الرغم من ذلك منَّ الله سبحانه عليَّ وعلى عدد من الأخوة باللقاء به (ع) في عدد من الأماكن وفي تلك اللقاءات لمسنا همه العظيم ، وانشغاله بحال الأمة وما تعانيه ومدى انصرافها عما يحييها ، وسعيها خلف فقهاء السوء الذين سيوصلونها إلى الهاوية ، وكان في كل ذلك كجده رسول الله(ص) جادا ومجدا في الدعاء للناس بالهداية على الرغم من الأذى الذي يلقاه من الناس والافتراءات بل والجرأة الغريبة!!!

أتذكر مرة أن أحد الناس وفق إلى لقاء السيد في الحسينية وكان هذا الرجل أخو أحد الأنصار ، وطلب هذا الرجل ـ حتى يصدق بالسيد(ع) ودعوته ـ من السيد(ع) أن يقسم له بالقرآن على أنه وصي ورسول الإمام المهدي(ص) ، فقال له السيد(ع) ، قبل أن أقسم لك أروي لك هذه الحكاية ؛ التقى نفر من أهل مكة بأعرابي في الصحراء فأخبروه بدعوة محمد(ص) وما نزل عليه من كلمات الله سبحانه ، فطلب منهم الأعرابي أن يقرؤوا له ، فقرؤوا له قول الله سبحانه {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}(الذاريات/23) ، فقال الأعرابي متعجبا ومستغربا : أوَ جعلتموه يقسم؟؟!! وكان يريد (ص) بهذه الحكاية أن يوصل رسالة لهذا الرجل ؛ أن القسم عظيم ومحنة كبيره لهذا الرجل ، ولكن الرجل أصر إلا أن يقسم السيد(ع) ، فقال له السيد(ع) : اذكر لي صيغة القسم التي تريدها أنت حتى أقسم لك ، فقدموا القرآن للسيد(ع) واقسم للرجل على أنه وصي ورسول الإمام المهدي(ص) .

ولو كان هناك شيء من الإنصاف لهذا الولي الناصح من أولياء الله وحججه(ص) لجعل الناس كلمته الشريفة منهاج عمل للوصول إلى الله سبحانه فالكثير من الأخوة الأنصار الذين رافقوه كانوا ـ جزاهم الله خيرا ـ يسمعونا درر آل محمد(ص) التي تخرج من فمه الطاهر الشريف ، ومنها تلك الكلمة الحكيمة التي تبين دعوته المباركة (ص) بأبسط عبارة وأبلغ بيان حيث يقول : (من طلبني هلك، ومن طلب الإمام المهدي ضل، ومن طلب الله وصل ) فالغاية التي كان يريد للناس أن يطلبوها هي الله الواحد الأحد ، ولم يطلب (ص) طاعة الناس إليه والانصياع لأمره إلا بأمر الله سبحانه ، فهو (ص) يكشف للناس عن عظيم تكليفه، فحمله وتكليفه عظيم ، وليس الأمر كما اعتاد الناس أن يفهموه ـ مما عرفوه عن فقهاء الضلالة غير العاملين ـ أنه أمر سلطة وقيادة وطلب جاه ، بل الأمر أعظم من ذلك بكثير ؛ الأمر هو معرفة الله سبحانه وهذه الغاية التي هي أساس الخلق وبغيته لا يلتفت فيها المكلف بتعليم الناس إلى قضية السلطة والتحكم بأمورهم ، بل إن هذه الأمور تتحقق تلقائيا في هذا السبيل العظيم فهي من تفصيلاته وليس هي الأصل فيه ، وللناس فيما كان عليه الطاهرون من آل محمد(ص) آية واضحة أنهم ما كانوا طلاب سلطة كونها الغاية في الطلب ، بل كان طلبهم لها ليستبين الناس أنها من لوازم أداء تكليفهم بوصفهم هداة للناس ، فقد ورد عن أمير المؤمنين(ص) أنه قال (لا رأي لمن لا يطاع).

فكانت غاية طاعة الناس لهم (ص) هو إيصال مراد الله سبحانه لهم ، وليس رغبة بهذه الدنيا التي هي أهون من عفطة عنز لديهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهذه السيرة العطرة هي هي لم تختلف ولم تتخلف مع الإمام أحمد الحسن(ص) ، بل هي تشكل كل خطوة من خطواته ، فهو (ص) معلم في صمته وفي نطقه ، وفي كل حركة وسكنة له ، كل همه أن يعرف الناس إلى أين يقودهم دليلهم المبعوث إليهم ، ولذلك ـ كما يذكر بعض الأخوة الأفاضل عنه (ص) ـ إنه كان لا يسأم من بيان المعلومة للأنصار بل يعيدها مرارا وتكرارا ، ويوزع هذا الأمر بينهم بالعدل والسوية وكل يوصل له الأمر بحسب ما يعي ويعرف ، وتلك الصفات والشمائل هي ذاتها صفات المعلم الإلهي الذي لا يشغله عن النظر لغايته والعمل لها تقلب المتغيرات من حوله ، بل هو يرى أن هذه المتغيرات إنما تتقلب بفعل دوران عجلة العمل الإلهي ، وهذا الأمر حق وصدق.

إن ما أحدثته هذه الدعوة المباركة في واقع حياة الناس أعظم من أن يوصف ، واستبان أثرها على من آمن بها ومن لم يؤمن ، وما هذه الآيات الإلهية النازلة إلا دليل لا يحتاج إلى بيان ، قال تعالى{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(فصلت/53) ، وهذه الآية الكريمة هي إجمال لحركة الإمام أحمد الحسن(ص) ودعوته المباركة التي بإمكانيات تكاد لا تذكر بميزان الحياة المادية وصل صوتها إلى أقاصي الأرض في الشرق والغرب ، وليس في ذلك مبالغة في القول أن الله سبحانه بمعرفة عموم الناس في هذه الأرض بهذه الدعوة الإلهية هو دليل إدانة للناس كافة ولا ينجيهم العذر والاعتذار ، حين يقيم الله سبحانه من تلك الأمم أناسا سمعوا قول الحق وأجابوا داعيه وصدقوه ونصروه ، فتخلف الآخرين عنه هو دليل اختيارهم للجهة الأخرى التي ارتضت لنفسها النهج القديم الجديد وهو محاربة كل دعوة إلهية غايتها التوحيد ، وتحقيق الغاية الإلهية من الخلق ، قال تعالى{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات/56) .

وفي الختام أسجل أن هذه المعرفة هي بقدري لا بقدره (صلوات الله وسلامه عليه) ، وأقول لمن شاء أن يعرف الإمام أحمد الحسن(ص) فأقصر الطرق إلى معرفته هو سؤال الحق سبحانه ، كما ورد عنهم صلوات الله عليهم : (إعرف الحق تعرف أهله) ولذلك فالإمام أحمد الحسن(ص) هو اليوم ميزان الله على الأرض ، به يستبين للناس حالهم مع الله سبحانه ، قال تعالى{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف/8) ، وقال تعالى{الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ}(القارعة/1-11) ، ولعل في سورة القارعة خير بيان لمن ألقى السمع وهو شهيد .

وآخر دعوانا أن الحمد لله الذي هدانا للإمام أحمد الحسن(ص) وهدانا به ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله سبحانه ، وصلى الله على محمد وآل محمد الأئمة والمهديين وسلم تسليما .

الأستاذ زكي الأنصاري

من البصرة

16/رجب المرجب/1431هـ ق

الموافق 29/حزيران/2010م

إقرأ ايضاً